هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
مرحبا بكم في منتديات نسمة أسعدنا تواجدكم بيننا في آنتظار مشاركاتكم و تفاعلكم في المنتدى. تتقدم إدارة منتديات نسمة بأحر التهاني لكافة أعضاءها بمناسبة عيد الفطرالمبارك أعاده الله علينا وعلى الأ مة الاسلامية بالخيروالبركة..
كنت أسير وصديقي باتجاه رصيف مرسى السفن عندما سألته عن المكان الذي سنتوقف فيه لصيد السمك، فأشار إلى عمود ضوء يتوسط الرصيف الذي يمتد مسافة ثلاثمائة متر، قائلاً "هناك" وعندما وصلنا سألته عن سبب اختياره لهذا المكان فقال " للاستفادة من ضوء العمود عندما يحل الظلام!".
كانت معنا أدوات الصيد وكرسي طباقي جلس عليه صديقي بينما افترشت أنا حافة الرصيف وبدأنا بإعداد الطعم، لكن لفت نظرنا كثرة تواجد قناديل البحر تسير بسكون ووداعة باتجاه واحد مغطية سطح الماء كأنها الغمام.
بعد أن ألقينا خيوط الصيد أخذت أتأمل جحافل قناديل البحر يلامس بعضها خيط السنارة الحاد دون اكتراث بالرغم من أن حركة واحدة مني بإمكانها فصل جزء من كيانها الهلامي. أما الرصيف فكان يمتد في وسط البحر على نحو يجعلك تستمتع بمشاهدة المدينة الساحلية الصغيرة تحرسها الجبال الخضراء وبها تعانق زرقة السماء ويكلل هاماتها الغمام معظم أيام السنة.
مرت دقائق طويلة دون حراك خيط صنارتي ينبأ عن طعم التقطته سمكة، وعندما حولت ناظري نحو الصيادين من حولنا رأيت بعضهم يعود أدراجه مشتكياً بصوت عال "سبب اختفاء السمك هو جحافل قناديل البحر التي غطت مياهه!" غير أن صديقي رمقني بنظرة نكرة وقال " لا تصدق بأن قناديل البحر هي السبب بل هو نهر الطونة!".
بالنسبة لي كان الجلوس في ذلك المكان واستنشاق نسيم البحر العليل متعة بحد ذاتها لكن حقاً كان ينقصها حركة خيط السنارة التي تنبأ عن صيد سمكة، وهو ما تم بعد صبر طال، لكن عدد الأسماك وأحجامها الصغيرة كان ينبئنا عن خلل كبير أصاب طبيعة البحر الأسود الذي كان ولسنوات قليلة مضت يجود بخيره الوفير من الأسماك المختلفة.
منظر قنديل البحر لم يقنعني بحجة إلقاء اللوم على هذه المخلوق الوديع فهو أحد حلقات التوازن الطبيعي في البحار ، ومع ذلك لابد من تفسير سبب اقتراب قناديل البحر بكميات هائلة من شاطئ البحر في شهر يوليو، فقد جرت العادة مشاهدته هناك في منتصف شهر أغسطس من كل عام.
في عام 1987 شوهد نوع غريب من قناديل البحر يعرف باسم MNEMIOPSIS LEIDY يجوب مياه البحر الأسود على الرغم من أن هذا النوع يعيش في مياه المحيط الأطلنطي الممتدة من أمريكا الشمالية إلى الأرجنتين جنوباً. وفي عام 1989 تم تقدير كميات هذا النوع الغريب من قناديل البحر المتواجدة في البحر الأسود بثمانمائة مليون طن.
تسبب قنديل البحر الدخيل في حدوث نقص هائل لأسماك الهمسي الصغيرة المشهورة في البحر الأسود كونه يتغذى من كائنات بحرية دقيقة من خلية واحدة تدعى بلانكتون التي تعتبر الغذاء الرئيسي لسمك الهمسي وتساعده على الخصوبة. ويعتبر البلانكتون أصغر كائن بحري والحلقة الأولى لسلسلة دورة الحياة في البحار وحجمه عدة مكرومترات، والمكرومتر هو واحد من مليون جزء من المتر ، إضافة إلى دوره الحيوي في الحفاظ على نسبة الأوكسجين في الطبيعة كونه يستخدم أشعة الشمس في إحداث تغيير بيولوجي يحول ثاني أكسيد الكربون إلى أوكسجين.
تم لاحقاً اكتشاف أن دخول قنديل البحر الغريب إلى مياه البحر الأسود جاء عن طريق المياه التي تختزنها السفن عابرة القارات للحفاظ على توازنها أثناء إبحارها..! حيث تقوم هذه السفن بتعبئة خزاناتها من مياه البحر في المناطق التي تتواجد فيها ثم تقوم بتفريغها في موانئ البحار التي تحط فيها وتنقل إليها بضائعها. وقد يحتوي هذا الماء على أنواع مختلفة من الكائنات البحرية تقوم بالتكاثر في غير بيئتها وتسبب لاحقاً خلخلة في التركيبة الطبيعية في محيطها الجديد.. وهذا ما حدث بالفعل لسمك الهمسي الذي جاء من يزاحمه في التغذية من البلانكتون ما تسبب بنقصه.
لكن أمر غريب حدث قلب الكفة مرة أخرى لصالح سمك الهمسي. ففي عام 1997 شوهد نوع جديد من قنديل البحر اسمه BEROE OVATA غذاؤه الرئيسي هو قنديل البحر الأول التي تسببت في ندرة سمك الهمسي!
فقد تأكد أن هذا النوع انتقل أيضاً بواسطة مياه السفن عابرة القارات التي قامت بتفريغ مياهها في موانئ البحر الأسود. وبالفعل تم التسجيل في السنوات الأخيرة عن زيادة كبيرة لأسماك الهمسي وكميات البيض التي تضعها بشكل يتناسب مع انحسار قناديل البحر التي تتغذى من البلانكتون.
لا أخفي شعوري بالمتعة لمشاهدة قناديل البحر الوادعة بأحجامها المختلفة حيث يقوم بعضها بالصعود وملامسة الهواء لعدة سنتمترات ثم تعود مسرعة مرة أخرى وتغوص في الماء .. ولعلها من تلك الملامسة تقوم بإرسال قبلة خجولة تعبر عن حسن النية تجاهنا!
يقول صديقي أن نهر الطونة يقوم كل عام بإلقاء آلاف الأطنان من النفايات الصناعية الملوثة والسامة في البحر الأسود ما يتسبب بشكل مباشر في تخريب الحياة الطبيعية لمياهه واختفاء كائنات وإحداث نقص في أسماكه. فنهر الطونة الذي يمتد مسافة 2800 كلم يعبر عشر دول معظمها صناعية تقوم بإلقاء نفاياتها فيه، حيث ينبع من جبال ألمانيا عابراً النمسا وسلوفاكيا والمجر وغيرها ثم يصب أخيراً في مياه البحر الأسود عبر شواطئ أوكرانيا.
نهر الطونة هو جزء من المشكلة وليس كلها فهناك أسباب أخرى وهي زيادة الهجرة من الأرياف إلى المدن الساحلية ما شكل نقصاً في استهلاك مياه الأنهار الحلوة التي تصب في البحر الأسود قليل الملوحة. نسبة ملوحة البحر الأسود زادت عن الماضي ما أخل بالتركيبة الطبيعة تسبب باختفاء حلقات عديدة من الكائنات التي تسكنه أضرت بسلسلة الحياة فيه.
عندما حل اليوم الأخير لإجازتي نويت وصديقي الذهاب إلى رصيف السفن، فقمنا بشراء الطعم، وهو عبارة عن دودة الأرض ، وعندما جلس صديقي وافترشت حافة الرصيف في مكاننا المعهود لاحظت قلة أعداد قناديل البحر، لكن حجمها كان كبيراً وقبلاتها كانت أكثر كأنها عرفت بموعد فراقي عنها!
من حسن حظي أنه كان أكثر يوم تُعلق فيه الأسماك بصنارتي، وعندما حل الظلام كان العمود يلقي بضوئه الأزرق الخافت على مياه البحر لينعكس من على سطح أجسام قناديل البحر.. وعند فراقنا ألقيت عليها نظرة وداعية أخيرة فلاحظت اشتداد وميضها وهي تسير في سكونها الأبدي ضمن حلقة دورها في سلسلة الحياة.